احتدام الحمائية وتعاظم القلق

تواجه الأسواق العالمية في الوقت الراهن مرحلة شديدة الحساسية، يختلط فيها الجانب السياسي بالاقتصادي على نحو واضح. من أبرز التطورات دخول حيذ التنفيذ التعريفات جمركية الأمريكية على الشركاء التجاريين حيث وصلت إلى 104% على الواردات الصينية ونسب اقل للدول الاخرى، ما أثار موجة من الجدل والقلق بين المستثمرين والمؤسسات. هذه الخطوة تُعيد رسم خريطة التجارة الدولية، وتؤثر في تكاليف الإنتاج والاستهلاك عالميًا. فيما تتابع الدول المشهد ، تترقب الأسواق تداعيات هذه الإجراءات على الطلب العالمي وأسعار السلع. لم يكن مفاجئًا أن تُعلن أكثر من 70 دولة رغبتها في التواصل مع الإدارة الأمريكية، سعيًا لتوضيح آليات التعريفات واحتمال تأجيلها أو تخفيفها. فالجميع يدرك أن أي تراجع في التجارة الدولية سينعكس سلبًا على النمو العالمي. الشركاء التجاريون، مثل الصين والاتحاد الأوروبي، مهتمون خصوصًا بتجنب تصعيد يضر بسلاسل الإمداد ويعرّض استثمارات ضخمة للخطر.
السندات الأمريكية والذهب – تقلبات تروي قصة الحذر
شهدت سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات مؤخرًا ارتفاعًا في عوائدها إلى نحو 4.50%، في حركة تكشف مدى ضبابية الأوضاع. فاللافت أن سلوك هذه السندات بات متسم بالتقلبات المفاجئة، وهو ما تزامن مع تراجع فروقات المقايضات بشكل حاد. يرى أن هذا المشهد يعكس حذرًا شديدًا من جانب المستثمرين، الذين صاروا مترددين في ربط أموالهم بأدوات طويلة الأجل ضمن مناخ سياسي وتجاري يتسم بالاضطراب وايضا احتياج المؤسسات الى النقد في حين انخفاض الاهتمام في الشراء من قبل شريحة كبيرة من مستثمري الدخل الثابت. على الجانب الآخر، يستمر الذهب كملاذ آمن، محافظًا على دورة الأصول الدفاعية في أوقات التوتر. فقد حافضت أسعاره على 3010 دولارات للأونصة، بارتفاع يومي بنحو 1.2%. وما هذه القفزة إلا تأكيد لحالة القلق من تصاعد النزاع التجاري العالمي واحتمالية تباطؤ النمو الاقتصادي. فلطالما كان الذهب خيارًا جذابًا عند اشتداد الضبابية السياسية، خاصة حين تتعدد القرارات الحمائية وتتلاحق التصريحات المتشددة بين القوى الاقتصادية الكبرى.
النفط – ضغط مزدوج وثقة متناقصة
لم تسلم أسواق النفط من موجات التذبذب اليوم التي تتجه ان تكون اكبر من تقلبات مطلع الاسبوع، إذ تراجعت الأسعار إلى نطاق الستينيات، فيما انخفض خام غرب تكساس الوسيط إلى الخمسينيات. يعود ذلك إلى تنامي المخاوف بشأن تباطؤ النمو العالمي، ما ينعكس سلبًا على الطلب على الطاقة. ويُخشى من أن يؤدي أي توتر إضافي في التجارة الدولية إلى تقليل الاستهلاك الصناعي والنقل، متسببًا في ركود محتمل للأسعار أو حتى مزيد من التراجعات وايضا رفع اوبك بلس للانتاج الاسبوع الماضي لا يزال يدعم الضغط في جانب ارتفاع العرض مؤكداً على استمرار معنويات متداولي الطاقة السلبية.
ستاندرد اند بورز 500 في تصحيح حاد – أزمة سياسة في المقام الاول؟
شهد مؤشر S&P 500 موجة بيع قوية، بل تخطت خسائره 20% في بعض اللحظات قبل أن يرتد صعودًا بشكل مؤقت. استدعت هذه الحركة القوية إلى الأذهان مشاهد في 2008 وبداية 2020، غير أن جذور المأزق الراهن تبدو مختلفة، إذ إن الاضطراب الحالي ينبع بدرجة كبيرة من التوترات التجارية والسياسات الحمائية، بدلًا من كونه أزمة مالية أو عقارية. وعلى الرغم من حدّة هذا الهبوط، يبقى الاقتصاد الأمريكي محافظًا على قدر معقول من التماسك، في حين يشدد المحللون على أن حسم اتجاه السوق سيرتبط في الأساس بمدى نجاح المفاوضات أو تفاقمها. ومن الملاحظ أن الأسواق اليوم تعتمد على العناوين السياسية بصورة فورية؛ تسريب أي خبر عن تأجيل الرسوم الجمركية أو التوصل إلى اتفاق جزئي قد ينعكس إيجابًا على المؤشرات في لحظات. مثال ذلك ما حدث عندما ارتفع مؤشر S&P 500 بنسبة 6% خلال دقائق، عقب شائعة عن تأجيل الرسوم. وهكذا، يبدو أن السياسة قادرة على إصلاح ما تسببه من إرباكٍ إذا مالت نحو التهدئة أو تقديم تنازلات متبادلة.
السياسات النقدية ومستقبل التصحيح – هل بلغنا القاع؟
في ظل المشهد التجاري المضطرب، يمكن للسياسات النقدية أن تزيد من حدة القلق أو تساهم في تهدئته. اعتاد المتداولون اللجوء إلى هذا المسار منذ الأزمة المالية العالمية، غير أنّ الفارق حاليًا هو غياب خلل عميق في النظام المالي، ما يجعل التدخل العاجل من قِبَل الاحتياطي الفيدرالي أقل احتمالًا في المرحلة الراهنة.
وبرغم ذلك، يبقى السؤال: هل بلغ السوق قاعه بالفعل أم لا؟ يمكن القول الإجابة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتطورات السياسية؛ فالأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة والعالم لم تصل بعد إلى مستوى هيكلي، وما نراه اليوم لا يعدو كونه إعادة تسعير للمخاطر بفعل التوترات التجارية. لكن في حال استمر التصعيد أو توسعت إجراءات الرسوم، فقد نشهد موجات هبوط إضافية، خاصة إذا انعكس الأمر على مستويات التوظيف والإنفاق الاستهلاكي. وفي الأفق البعيد، قد يجد بعض المستثمرين فرصًا في اثناء التصحيحات القوية، عبر بناء مراكز جديدة في قطاعات وأسهم تراجعت أسعارها نتيجة الضغوط الحالية، خصوصًا إن ظهرت مؤشرات لحل قريب أو تهدئة في المفاوضات التجارية.
ما تكسره السياسة قد تصلحه المفاوضات
لا جدال في أن الأجواء السياسية الراهنة تشكّل المحرك الأساسي لكثير من التحولات في الأسواق العالمية. فالقرارات الحمائية والتعريفات الجمركية غير المسبوقة أوجدت حالة من عدم اليقين والارتباك في سلاسل التوريد وقطاعات الأسهم. ومع أن البعض يصف الأمر بأنه أقرب إلى أزمة سياسية لا مالية، لكن تأثيره عميق على نفسيات المتعاملين وتقييماتهم للمخاطر. إذا استطاعت القوى الاقتصادية الكبرى التوصل إلى تسويات أو حلول وسطية، فقد نشهد انتعاشًا سريعًا يعوّض معظم الخسائر. وقد يتضاءل حينها بريق الذهب قليلًا، وتستعيد السندات الأمريكية سلوكها الهادئ التقليدي، وتجد الأسهم الكبرى دفعةً قوية للأعلى. أما إذا استمر التصعيد وزادت مساحات النزاع، فقد يطول أمد التقلبات، ويلقي بثقله على الاقتصاد العالمي مع احتمالية الركود التي وصلت 50% وابعد من ذلك الى احتمال تسعير الركود التضخمي وبيئة اقتصادية مشابهه للثمانينات في القرن الماضي.
لا تُمثل Pepperstone أن المواد المقدمة هنا دقيقة أو حديثة أو كاملة، وبالتالي لا ينبغي الاعتماد عليها على هذا النحو. البيانات، سواء كانت من جهة ثالثة أو غيرها، لا يجب اعتبارها توصية؛ أو عرض لشراء أو بيع؛ أو دعوة لعرض لشراء أو بيع أي أمان، منتج مالي أو صك؛ أو المشاركة في أي استراتيجية تداول معينة. لا تأخذ في الاعتبار الوضع المالي للقراء أو أهداف الاستثمار الخاصة بهم. ننصح أي قارئ لهذا المحتوى بطلب نصيحته الخاصة. بدون موافقة Pepperstone، لا يُسمح بإعادة إنتاج أو إعادة توزيع هذه المعلومات.